أحدث المقالات والدروس

ملخص درس مفهوم العلوم الإنسانية خاص بشعب الآداب والعلوم الإنسانية

author image

ملخص درس مفهوم العلوم الإنسانية خاص بشعب الآداب والعلوم الإنسانية

(المفهوم الثالث من مجزوءة المعرفة والخاص بالآداب والعلوم الإنسانية)


(تقديم المفهوم + تأطير إشكالي ومواقف وتركيب كل محور من المحاور الثلاثة للمفهوم + خلاصة عامة للمفهوم)


المفهوم الثالث: العلوم الإنسانية
تقديم المفهوم
إن كان الإنسان ومنذ أمد تاريخي بعيد هو تلك الذات الحاملة للمعرفة العلمية، والتي استطاعت السيطرة على الطبيعة واستكناه جوهر نظمها وحتمياتها وقوانينها؛ فإنه وبعد أن تمكن فعلا من الاستحواذ على تلك الطبيعة، سيصير هو نفسه موضوعا للمعرفة. وهي المعرفة التي تم تأطيرها ضمن ما يسمى بالعلوم الإنسانية؛ كعلوم تسعى إلى دراسة هذا الإنسان، قياسا واستلهاما للنموذج الناجح في العلوم الحقة. وهنا سيبدأ التفكير في إمكانية الوصول إلى معرفة موضوعية بذات الإنسان، سواء كانت تلك المعرفة قائمة على نهج العلوم الطبيعية أم على مبتكراتها المنهجية الخاصة التي يمكن أن تميزها في ذاتيتها وشموليتها، وتعكس علميتها. لكن في هذه النقطة بالتحديد، ستصطدم العلوم الإنسانية بجملة من الصعوبات على مستوى موضعة الظاهرة الإنسانية، وعلى مستوى المنهج الملائم لموضوعها والنموذج الذي يصلح للاختبار عليها. فكان أن طرحت الإشكالات التالية عليها: ألا تستطيع العلوم الإنسانية أن تقدم معرفة موضوعية وعلمية بالظواهر الإنسانية؟ وهل يمكن موضعة هذه الظواهر وتفسيرها سببيا؟ أم أنه ينبغي في مقابل التفسير الوضعي السببي فهم الفعل الإنساني وتأويله؟ ثم، هل يمكن لهذه العلوم تقليد النموذج العلمي التجريبي الدقيق على الظاهرة الإنسانية أم أن خصوصية هذه الظاهرة المتميزة بفرادتها وتعدد أبعادها تلغي هذه الإمكانية؟ وإذا كان الخيار الثاني هو المرجح، فما هو نموذج العلمية الذي تقترحه العلوم الإنسانية إذن؟

المحور الأول : موضعة الظاهرة الإنسانية
تأطير إشكالي للمحور : 
تطرح علمية علوم الإنسان مسألة إمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية أو استحالتها موضع نقاش، يجعلنا نصوغ مشكلتها هاته كما يلي: هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنتج معرفة موضوعية وعلمية للظواهر الإنسانية؟ بمعنى آخر، هل يمكن أن يكون الإنسان ذاتا للمعرفة وموضوعا لها في الآن نفسه؟ ثم ألا يشكل تداخل ذات الدارس بموضوع الدراسة عائقا أمام تحقيق موضوعية العلوم الإنسانية؟

موقف جون بياجي: 

إن صعوبة تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية على غرار العلوم الحقة ناتجة عن تلك العلاقة التداخلية المعقدة بين الذات والموضوع، فالإنسان هو الدارس، وهو أيضا موضوع الدراسة، إنه جزء من الظاهرة التي يجب أن يدرسها من الخارج، كما أنه أكثر ميلا للاعتقاد في معرفته الحدسية بالوقائع لانخراطه فيها وإضفائه قيما محددة عليها، وهذا ما يقف عائقا أمام تحقيق موضوعية العلوم الإنسانية، والتي لن تتحقق بالفعل إلا بإزالة تمركز الذات حول ذاتها لتكون أكثر حيادية وموضوعية. (العالم لا یکون أبدا عالما معزولا، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو إيديولوجي).

موقف فرانسوا باستيان:

إذا كانت مجهودات علماء الاجتماع وأبحاثهم قد سارت في اتجاه تحقيق تباعد الباحث عن جماعته والتحكم في انخراطه فيها احتراما لمبدإ الحياد العلمي، فإن هذه المسألة ظلت مفارقة كبرى يعيشها الممارس الباحث في مجال العلوم الاجتماعية، فهو جزء من الجماعة التي يدرسها، وفي نفس الوقت مطالب بالتموضع خارج جماعته الاجتماعية تلك، وأن يبقى في منأى عن قيمه وتصوراته، ومن ثم فهو لا يقدر على أن يكون محايدا حتى ولو رغب في ذلك. وعليه فموضعة الظاهرة الإنسانية تبقى مسألة مستبعدة التحقق. (لا يمكن للباحث الانعزال أو الابتعاد عن العالم الاجتماعي، حتى لو رغب في ذلك).

موقف لوسيان غولدمان:  

يؤكد على الاختلاف الجذري الحاصل بين شروط عمل علماء العلوم الإنسانية وشروط عمل علماء العلوم الحقة، وذلك راجع إلى التصاق الذات العارفة بموضوع المعرفة، مما يبقي على عجز العلوم الإنسانية عن استيفاء شروط الموضوعية لأن الباحث في تصديه للظاهرة الإنسانية لا يستطيع أن (يضع ذاته بين قوسين) ويجد عسرا في التخلص من أحكامه القبلية ومواقفه المضمرة ونوازعه اللاواعية. مما يجعل موضعة الظاهرة الإنسانية أمرا مستحيلا. (إن الباحث يتصدى في الغالب، للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة ولاواعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي).

موقف دوفرين:  

يرفض اعتبار الإنسان موضوعا مثل بقية موضوعات الطبيعة، لما في الأمر من استلاب لسمات الإنسان الوجودية وخصائصه المميزة له، والتي تضفي عليه طابعه المتفرد. ولهذا ينبغي النظر إلى الإنسان في تعدد وتفرد أبعاده (اللغة، اللاوعي، التاريخ...)، على اعتبار أن الظواهر الإنسانية الملتصقة به، تتميز بدورها بتعدد أبعادها على عكس الظواهر الطبيعية، وهذا يستوجب مراعاة خصوصية الظاهرة الإنسانية، وتفادي أي تضييع لها أو أية محاولة لإفقادها مميزاتها وهويتها. (لقد فقد الإنسان إحداثياته بالنسبة للعلم... ولكن مع ذلك يظل الإنسان هو هذا الإنسان عينه. أي الفرد. أي ذاك الذي يشبهني ويختلف عني أيضا).

موقف بوفريس: 

رغم نجاح العلوم الإنسانية في حسم التنافس مع الفلسفة، بعد أن بدت كأنها أخر فتوحات الروح العلمية، خصوصا وأنها نشأت في نهاية القرن التاسع عشر، في سياق إبيستمولوجي مخصوص يطبعه الطموح في تطبيق النموذج الفيزيائي التجريبي على دراسة الإنسان، فإنها مع ذلك لم تستطع أن تفي بشرط الموضوعية، لأن المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه تبقى دائما، وبعيدا عن أن تكون محايدة، بل مشبعة بالذاتية. مما يعيق تحقق الموضوعية في العلوم الإنسانية، (من المستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية من بلوغ موضوعية مطلقة، أو على الأقل التخلي عن جزء من أهدافها والاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية).

موقف كلود ليفي ستراوس:  

يرى بأن المصادرة التي يقوم عليها البحث العلمي، والمتجلية في ثنائية الذات الملاحظة والموضوع الملاحظ، لا تقف عند حدود العلوم الإنسانية، بل تمتد إلى جل العلوم الدقيقة والطبيعية. وإذا كانت العلوم الاجتماعية والإنسانية علوما بالفعل، فهي ملزمة بالمحافظة على هذه الثنائية والعمل على نقلها إلى داخل الإنسان حتى تترسخ القطيعة التي تفصل بين الإنسان الملاحِظ والإنسان الملاحَظ. وهذا الأخير لا ينبغي أن يكون موضوعا للتجربة فقط، بل أن لا يشعر أنه كذلك، وإلا تدخل وعيه لتغيير مسار التجربة. (هكذا يبدو أن الوعي هو بمثابة العدو الخفي لعلوم الإنسان، إنه وعي عفوي يتخذ مظهرين؛ أحدهما يرتبط بموضوع الملاحظة وثانيهما بالفكر، أي بالوعي المفكر - أو وعي الوعي - لدى العالم).

موقف ميشيل فوكو:  

إذا كانت العلوم الإنسانية تهتم بالإنسان باعتباره يتميز بمجموعة من الخصوصيات (اللغة، الحياة، الشغل...)، فإن هذه الأشياء تتشاركه معها مجموعة من العلوم الأخرى كعلم الاقتصاد وعلم الأحياء والفيلولوجيا. وبالتالي فالظاهرة الإنسانية، باعتبارها ظاهرة معقدة ومركبة ومتعددة الأبعاد، تبقى نقطة لتقاطع مجموعة من العلوم؛ مما يجعل دراستها أمرا صعبا. (يمكننا إذن تحديد موقع العلوم الإنسانية في نقطة التجاور، وفي الحدود المباشرة وعلى طول هذه العلوم التي تهتم بمسألة الحياة أو الشغل أو اللغة).
تركيب عام للمحور: 
هكذا إذن، تجمع جل التصورات تقريبا على أن موضعة التظاهرة الإنسانية مسالة تواجهها مجموعة من الصعوبات، فمن جهة، هنالك تداخل بين الذات والموضوع، يتعذر معه فصل ذات الباحث الاجتماعي (الذات الملاحظة) عن موضوع الدراسة (الموضوع الملا حظ). ومن جهة أخرى، يضاف إلى ذلك أن هذه الظاهرة الإنسانية المشبعة بالذاتية هي ظاهرة متفردة ومتعددة الأبعاد لا يمكن اختزالها في عنصر واحد لأن ذلك من شأنه أن يفقدها خصوصياتها.

المحور الثاني : التفسير والفهم في العلوم الإنسانية
تأطير إشكالي للمحور :

يتخذ التفسير مكانة مرموقة في العلوم الدقيقة، بل بشكل إلى جانب التنبؤ النواة الصلبة للعقلنة الطبيعية، فهل يمكن اتخاذه كمنهج ملائم لموضوع العلوم الإنسانية؟ ثم ألا يفرض اختلاف موضوع العلوم الطبيعية عن موضوع العلوم الإنسانية على هذه الأخيرة أن تبحث عن منهج آخر يلائمها قد يكون هو الفهم أو التأويل أو أي منهج أخر؟
موقف فيلهام دلتاي

يرفض التصورات القائمة على المنهج التجريبي في العلوم الإنسانية لأن هذه الأخيرة علوم روحية، تختلف مناهجها عن مناهج العلوم الحقة، ولأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة تفهم وتؤول ولا تفسر، انطلاقا من كونها كلا لا يقبل التجزيء، يتداخل فيه ما هو نفسي بما هو اجتماعي، ويتم النفاذ إليه كتجربة داخلية عبر الفهم والتأويل، وذلك بخلاف العلوم الطبيعية التي تعتمد على التفسير بحكم أنها ذات مواضيع معزولة وخارجية. وتنطلق من الجزء في اتجاه الكل. (نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية).
موقف كلود ليفي ستراوس  

إذا كانت العلوم الدقيقة قد استطاعت الفصل بين عمليتي التفسير والتنبؤ، وحققت تقدما هائلا بفضلهما، فإن العلوم الإنسانية محكوم عليها بأن تحتل موقعا وسطا بين التفسير والتنبؤ؛ ذلك أن تفسيراتها فضفاضة وتقريبية وغير دقيقة، كما أن تنبؤاتها خاطئة في غالب الأحيان وغير يقينية، ومع ذلك فهي تقدم مثالا وسيطا بين المعرفة الخالصة القائمة على التفسير، والمعرفة النافعة القائمة على التنبؤ. (والحقيقة أن العلوم الإنسانية تجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، كما لو كانت عاجزة عن السير في اتجاه التفسير أو في اتجاه التنبؤ).
موقف جيل غاستون غرانجي

 يرى أن نشاط العقل في الظواهر الإنسانية يتراوح بين نموذجين معرفيين هما: التفسير والفهم؛ فالتفسير هو كشف للعلاقات السببية الثابتة التي توجد بين عدد من الحوادث والوقائع، واستنتاج أن الظواهر المدروسة تنشأ عنها، وهذا ما يجعل العلوم الإنسانية ذات طبيعة تفسيرية موضوعية، بينما الفهم هو نشاط عقلي تأويلي، يرمي إلى فهم الفعل الإنساني، لكنه يبقى منهجا محدودا، لأنه يصبح عائقا أمام فعالية العقل في العلوم الإنسانية، ولأن المعرفة التي يقوم عليها هي معرفة مقصرة مشبعة بالذاتية وتجنح إلى متاهات الأسطورة والسحر. (إن المعرفة التي تتأسس على الفهم فقط هي معرفة مسرفة في مقتضياتها ومطالبها ومقصرة فيها بآن واحد).
موقف جول مونرو:

 يشدد على أهمية الفهم وقيمته الأساسية في إدراك المعاني واستخلاص الدلالات، انطلاقا من تجارب الذات الوجودية المباشرة، ذلك أنه بإمكان الذات فهم الواقعة الإنسانية من خلال اعتمادها على البداهة والوضوء كخاصيتين تميزان ظاهرة الفهم، وهذا ما يجعل الفهم منهجا كافيا ومكتفيا بذاته، وهنا يبرز نقد مونرو للنزعة الوضعية التي تسعى إلى تفسير الظاهرة تفسيرا سببيا ووضعيا يقلد نموذج العلوم الحقة. (الفهم هو بداهة مباشرة في حين أن التفسير هو تبرير أو تعليل حدوث ظاهرة ما بافتراض ظاهرة أخرى).
موقف أوغست كونت

 يرى رائد النزعة الوضعية ومؤسس الفيزياء الاجتماعية التي ستعرف فيما بعد باسم «علم الاجتماع» أنه بالإمكان دراسة الظواهر الإنسانية دراسة موضوعية ومادية، تفصل الظواهر عن كل تناول لاهوتي أو ميتافيزيقي، وحصرها في المنهج الوضعي، وذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على أن ما ينطبق على العلوم الحقة، ينطبق على الظاهرة الإنسانية من حيث جعلها قابلة للتجريب والقياس والترييض، وبالدرجة الأولى قابلة للتفسير الذي يكشف عن قواعد وقوانين اشتغال الظواهر المدروسة.
موقف كارل بوبر

يؤكد على تعارض المذهب التاريخي مع المذهب الطبيعي المنهجي في علم الاجتماع، لأن بعض مناهج العلوم الطبيعية لا يمكن تطبيقها على العلوم الاجتماعية؛ وذلك راجع إلى كون قوانين الطبيعة هي قوانين ثابتة وصادقة في كل زمان ومكان، وتنفلت من التاريخ، بينما القوانين الاجتماعية تتغير بتغير الزمان والمكان، وخاضعة لمنطق التاريخ، مما يجعلها ذات طابع نسبي، يحول دون القيام بتطبيق المنهج الفيزيقي (التعميم التجربة، التنبؤ الدقيق...) الكائن في علوم الطبيعة على العلوم الاجتماعية. (يقرر المذهب التاريخي أن اتصاف القوانين الاجتماعية بالنسبية التاريخية هو الذي يمنع من تطبيق المناهج الفيزيقية في علم الاجتماع).
موقف جوليان فروند

 يشير إلى النقاش التاريخي الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر حول الفروق المنهجية والإبيستمولوجية التي تميز العلوم الدقيقة عن العلوم الإنسانية، معتبرا أن الباحثين انقسموا إلى طرف يرى أن العلوم الإنسانية في خضوع وتبعية دائمة لعلوم الطبيعة، بينما يؤكد الطرف الثاني على استقلاليتها، لكن هذه الاستقلالية انتهت إلى التمييز بين منهج عام يقوم على أساس اختلاف الموضوع ومنهج خاص يقوم على وحدة الموضوع ورفض تجزئة الواقع. (وأيا يكن المنهج المعتمد، فإن كل واحد يقوم بعملية انتقاء من التنوع اللامحدود للواقع التجريبي).
موقف برونيسلاف مالينوفسكي

يشيد بالأنثروبولوجيا وقيمتها العلمية، من حيث توجهها نحو الثقافة باعتبارها بؤرة اهتمام العلوم الإنسانية، مما جعلها أكثر فتوة وجدة وحداثة . غير أن سعيها وغيرها من العلوم الإنسانية للاستفادة من المناهج العلمية التي سبقتها والتي تعتمدها العلوم الطبيعية بالدرجة الأولى، من شأنه أن يشكل خطورة على العلوم الإنسانية ولا يصلح لها، (هذه الخيوط التي تشد العلوم الإنسانية إلى العلوم الحقة أضرتها أكثر مما نفعتها).
تركيب عام للمحور:

تعبر هذه المواقف عن اختلاف وتباين حول وضعية العلوم الإنسانية بين الفهم والتفسير، فإذا كان (دلتاي) و(مونرو)، قد ألحا على ضرورة البحث عن منهج خاص يلائم خصوصية الظاهرة الإنسانية، يؤيد هما (بوبر) في ذلك، ويوافقهما (مالینوفسكي)، الذي ارتأى بأن تطبيق منهج العلوم الدقيقة على العلوم الإنسانية فيه من الضرر أكثر من النفع، مما يستدعي نوعا من الاستقلالية بينهما كما يشير إلى ذلك (فروند). وإذا كانا قد أكدا كذلك على أهمية الفهم في دراسة الظاهرة الإنسانية، منتقدين بذلك التصور الوضعي الذي يؤكد على التفسير كعنصر تجريبي يمكن تطبيقه على تلك الظاهرة (كونت)، فإن (ستراوس)، و(غرانجي) يريان بأن العلوم الإنسانية لا زالت تتأرجح بين التفسير والتنبؤ، أو بين التفسير والفهم، مما ينعكس سلبا عليها، باعتبار تفسيراتها غير دقيقة، وتنبؤاتها غير يقينية، وفهمها قاصر ومشبع بالحدس الذاتي. لكن يبقى مع ذلك هذا النقاش المختلف اتفاقا في حد ذاته، طالما أنه يحاول إيجاد قاسم مشترك يضمن تحقيق علمية علوم الإنسان بين التفسير والفهم والتنبؤ والتأويل.



المحور الثالث : نموذجية العلوم التجريبية
تأطير إشكالي للمحور :

تطرح نموذجية العلوم التجريبية نفسها كمعيار أو أساس يمكن تبنيه لإحقاق وتحقيق علمية العلوم الإنسانية وضمانها. فهل يصلح نموذج العلوم التجريبية حقا للتطبيق على العلوم الإنسانية؟ وأي حد من العلمية يمكن أن يحققه في هذه العلوم؟ ثم هل يمكنه أن يوصلها إلى تحقيق ما حققته العلوم التجريبية من علمية أم أنه ينبغي على العلوم الإنسانية أن تفكر في مناهج خاصة بها؟
موقف فيليب لابروت طولرا وَ جون بيير وارنيي
يعتبران التداخل القائم بين الذات والموضوع کوضع إبستيمولوجي تشهده العلوم الإنسانية، ينبغي أن يجعل الباحث كذات تدرك الموضوع، وأن تكون على استعداد لفهمه باعتباره مخالفها وأخرها؛ وذلك انطلاقا من محددات منهجية، تجعل الذات تنخرط في موضوع دراستها أو بحثها وتتفاعل معه، بل وتتحكم في علاقتها معه، وتلك تشكل مناسبة لتكيف المنهج التجريبي مع خصوصية الظاهرة الإنسانية. كما تبين أن لا قطيعة بين العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة، ما دامت الفيزياء المعاصرة نفسها تأخذ بعين الاعتبار عامل تدخل الملاحظ. (عندما تركز الإبستيمولوجيا المعاصرة على الحضور الضروري للذات في العلوم الإنسانية، فإنها لا تفعل شيئا آخر غير تحديد المطالب المنهجية الإضافية، التي ينبغي على العقل استيفاؤها لتكوين هذه العلوم).
موقف موريس ميرلوبونتي
يرى بأن الذات هي أساس كل معرفة ؛ فتجربتها المعيشة هي التي تشكل أساس المعرفة بذواتنا وعالمنا، لأن كل ما يستطيع الإنسان إدراكه واقعيا وبطريقة علمية، يتم عبر التجربة الذاتية الخاصة، التي تعبر عن عالم المعيش، هذا العالم الذي يبنى عليه عالم العلم بكامله، فيكون هذا الأخير تحديدا بعديا لتجربة العالم المعيش هاته وتفسيرا لها؛ وبذلك ينتقد (ميرلوبونتي) المعرفة العلمية الوضعية التي تتجاهل تجربة الذات، وتعتبرها مجرد لحظة من لحظات العالم أو موضوعا شيئيا. (إن وجهة النظر العلمية التي أكون بمقتضاها مجرد لحظة من لحظات العالم هي دائما وجهة نظر خادعة... يكون العالم حولي حسبها موضوعا ولا يوجد لأجلي).
موقف جان لادريير
يناقش النموذج العلمي المناسب لدراسة الظواهر الإنسانية، ويتردد في ذلك بين المنهج الذي أثبت جدارته في علوم الطبيعة، وهو النموذج الوضعي الذي يقارب الظاهرة المدروسة كشيء خارج ذات الباحث ؛ أي المماثلة الصورية بين الأنساق المادية والوقائع الاجتماعية. والمنهج التفهمي الذي يتخلى عن منهج العلوم الطبيعية، ويعنى بكل ما يتصل بنظام الدلالات ونسق المقاصد والغايات والقيم؛ أي كل ما يكون الوجه الداخلي للفعل، ولذلك فهو يخلص إلى ضرورة بل وأهمية تدشين صورة للعلمية مغايرة للعلمية في علوم الطبيعة. (إن الشيء الذي يظهر مهما في النهاية... ليس هو فكرة العلمية، بل هو عملية تطورية مماثلة في إطار مخالف لذلك الذي تولدت عنه علوم الطبيعة).
موقف إيميل دوركاييم
لا يمكن دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية، إن لم يكن التعامل معها كأشياء ؛ أي كوقائع خارجية تنفصل عن ذواتنا، وتجعلنا نتعامل بكثير من الحياد والموضوعية والصرامة العلمية على غرار ما يوجد في العلوم الطبيعية، وهذا ليس معناه القول بأن الظواهر الاجتماعية هي أشياء مادية، ولكنها جديرة بأن توصف بأنها «أشياء» أي كالظواهر الطبيعية تماما. ومن ثم فما ينطبق على هذه الأخيرة منهجيا، يشكل نموذجا يقتدى به لدى العلوم الإنسانية. (يجب ملاحظة الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء).
تركيب عام للمحور:

يتبين من المواقف السابقة أن تطبيق النموذج العلمي التجريبي على العلوم الإنسانية وإن كان ممكنا مع (دوركايم) الذي يقول بأن دراسة الظواهر الاجتماعية من الخارج، تتماشى وهذا النموذج، ومع (طولرا) و(وارنيي) اللذين يؤكدان على انخراط الذات في الموضوع يشكل مناسبة لتكييف المنهج التجريبي مع خصوصية الظاهرة الإنسانية، فإن هذا الأخير يصطدم بالانتقاد الموجه له من طرف (ميرلوبونتي)؛ وذلك من حيث أنه يغفل تجربة الذات الإنسانية في بناء المعرفة العلمية، كما يتواجه مع رؤية (لادريير)، التي تلح على ضرورة البحث عن مناهج خاصة بالعلوم الإنسانية مخالفة لنماذج العلوم التجريبية.
خلاصة عامة لمفهوم العلوم الإنسانية

إن ميلاد العلوم الإنسانية، ورغم طابعه المتأخر، لم يكن ليتم إلا في ارتباط بذاك المشروع الوضعي الساعي إلى تجاوز الخطابات اللاهوتية والميتافيزيقية حول الإنسان، والداعي إلى دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية، تستلهم النموذج الجاهز للعلوم التجريبية، والذي ينظر إلى الظواهر الإنسانية كظواهر طبيعية يمكن إخضاعها للدراسة والتفسير العلميين باعتبارها وقائع خارجية مستقلة عن ذات الباحث. وذلك رغم ما تعرفه الظاهرة الإنسانية من تعقد، وما تطرحه من مشكلات إبستيمولوجية مرتبطة بالموضوع والمنهج والبناء النظري، فكان علم الاجتماع مقياسا لاختبار تلك العلمية. ولأن الظواهر والأفعال الإنسانية هي ظواهر واعية وإرادية، فقد طرحت أيضا صعوبة في موضعة الظاهرة الإنسانية؛ ولهذا فخصوصيتها أصبحت تؤكد على أهمية الذات باعتبارها واعية وقادرة على التدخل في المعرفة وبناء النظرية العلمية.