درس التجربة والتجريب / مفهوم النظرية والتجربة / مجزوءة المعرفة
تقديم عام للمجزوءة
تعتبر المعرفة فعالية إنسانية
موسومة بالتميز والتعدد والتنوع، يسعى الإنسان من خلالها إلى فهم العالم كمعطى طبيعي تحكمه القوانين،
كما يسعى أيضا إلى تحليل واستيعاب واقعه المشروط بالذات والموضوع وأداة المعرفة. وهكذا تفرد هذا الإنسان بدراسة الظواهر
الطبيعية والإنسانية معا،
محاولة منه للاستفادة من هذه المعرفة وتسخيرها لصالحه. ومن ثم بدأ المجتمع العلمي بوضع قواعد البحث العلمي، كما
لجأ إلى التجربة وصياغة
النظرية والملاحظة والاختبار والمقارنة والقياس...التي تجعل الفرضيات العلمية قواعد وقوانين تقدم تفسيرات وتنبؤات تبين انتصار العقل.
امتدادا لمسألة العلمية،
في مفهومي النظرية والتجربة، ستظهر العلوم الإنسانية
كتجسيد لرغبة الإنسان في الاشتغال بتفسير ذاته علميا - على غرار ما حدث في مختلف العلوم الدقيقة - وكذا محاولة دراسة الظواهر الإنسانية دراسة
موضوعية واستخلاص نتائج
وقوانين تحدد مساراتها وانتظاماتها. غير أن هذا الفهم الموضوعي للظاهرة الإنسانية عبر استلهام
النموذج التجريبي، طرح عدة استفهامات متعلقة بحدود نموذجية العلوم التجريبية وعوائق تطبيقها على الظاهرة الإنسانية.
وفي سياق هذا الانشغال
الإنساني بإنتاج معرفة حول الطبيعة والذات، فإن الحقيقة التي وصلت إليها هذه المعرفة، ظلت على الدوام
إشكالا مؤرقا للإنسان، لا من حيث علاقتها بنقائضها (الخطأ والوهم). ولا من حيث معاييرها
الذاتية أو الموضوعية، ولا من حيث قيمتها النظرية والعلمية. مما يجعل كل نتيجة علمية متوصل
إليها غير مطلقة وغير نهائية مما يطرح رهان التفكير في مدى صلابة ونسبية الحقيقة العلمية وفي مدى قابليتها للدحض،
وفي شروطها وحدودها وسياقاتها
الاجتماعية لنزع كل إطلاقية ووثوقية عنها .
وهكذا فمدارسة المعرفة
كإنتاج إنساني متميز، يجعلنا ننفتح على الإشكالات التالية : كيف تتأسس المعرفة الإنسانية؟ وما دور كل من النظرية
والتجربة في بناءها؟ وما الذي يميزها - إن كانت معرفة للخطاب العلمي- عن خطاب العلوم الإنسانية
؟ ثم، إذا كانت كل معرفة تسعى إلى بلوغ الحقيقة، فما طبيعتها ودلالاتها؟
مفهوم النظرية والتجربة
تقديم المفهوم
إن المعرفة العلمية ليست
تراكما لمعارف مبعثرة أو أفكارا متناثرة، ولا تركيبا لاستنتاجات وملاحظات غير منتظمة. فقد تمكن العلماء بفضل
مجهوداتهم الفكرية الكبيرة والمستمرة من بناء معرفة منظمة ومتميزة مؤسسة على بناء منطقی فرضي استنباطي اسمه النظرية،
كما هي مؤسسة على التجريب
والتجربة العلمية. ورغم هذا التميز الذي يسم المعارف والنظريات العلمية، فإنها غير ثابتة وخالدة، بل متغيرة
ومتجددة، مما يستدعي إعادة قراءتها وانتقادها قصد تصنيفها، ومن ثم فقد أصبحنا نسمع بعلم كلاسيكي
قائم على أسس عقلانية كلاسيكية وعلم معاصر قائم
على أسس عقلانية معاصرة، كما أصبحنا نتحدث عن المعايير والضوابط التي يمكن أن نحكم من خلالها على مدى صدق وصلاحية
النظريات العلمية. فما دلالة التمايز العلائقي بين التجربة والتجريب؟ وهل القول بأهمية التجريب في المعرفة العلمية
هو إقصاء لدور العقل؟ إذا
لم يكن الأمر كذلك، ما هي خصائص العقلانية العلمية وحدودها؟ ثم ما هي معايير علمية النظريات العلمية؟ وما مقاييس صلاحيتها؟
المحور الأول : التجربة والتجريب
تأطير إشكالي للمحور :
تأخذ التجربة دلالة خاصة
في المجال العلمي من حيث هي مجموع الخطوات النظرية والعملية التي يتأسس عليها التجريب العلمي والتي
يقوم بها العالم قصدا للحصول على أجوبة للأسئلة
التي يطرحها . فإذن ما الذي يميز التجربة عن التجريب؟ وما هي الخطوات التي يقوم عليها المنهج التجريبي؟ ثم
هل ينبغي الالتزام بها في ارتباطها بالواقع أم لابد من استحضار عنصر الافتراض والخيال في عملية التجريب؟
موقف كلود برنار :
لا بد للعالم
التجريبي أن يكون ملما بمجموعة من الشروط والمبادئ المنهجية والنظرية لبلوغ الحقيقة العلمية، فالتجربة
عبارة عن خطوات منهجية مثلى قائمة على الملاحظة،
الفرضية والتجريب. إذا اشتغل العالم بمقتضاها توصل إلى معرفة القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية.
«إن العالم التجريبي هو الذي يستطيع بفضل تفسير محتمل ومسبق للظواهر الملاحظة أن
يؤسس التجربة بحيث تسمح بالتحقق من الفرضية».
موقف رونی طوم :
إن التجريب
العلمي ليس هو المقوم الوحيد لتفسير الظواهر وتعليل أسبابها، إذ لا بد من استحضار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب، بمعنى إكمال
الواقعي " بالخيالي"، لأن هذه القفزة نحو الخيال هي أساسا عملية أو تجربة
ذهنية تمنح للواقع غنى. « إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما،
ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي».
موقف ألكسندر كويري :
يُبرز الفرق
الموجود بين مفهومي التجربة والتجريب، معتبرا التجربة هي تجربة خام وملاحظة عامية لم
تلعب أي دور في نشأة العلم، بل كانت عائقا أمامه لما يغيب عنها من علمية وموضوعية،
في الوقت الذي يكون فيه التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، فيفترض افتراضا مسبقا
مجموعة من الشروط المنهجية التي تجعله أكثر تنظيما من الناحية العلمية. « فالتجرية
بمعنى التجربة الخام لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، اللهم إلا دور العائق...أما
التجريب فهو المساءلة المنهجية للطبيعة».
تركيب عام للمحور:
يقوم العلم التجريبي على خطوات منهجية ونظرية تجمع بين الملاحظة والفرضية والتجربة،
لكن التجريب ليس ذاك التحقق الواقعي الذي يشكل المقوم الوحيد في تفسير الظواهر، بل
لا بد من اللجوء إلى التجربة الذهنية الخيالية الافتراضية لما لها من دور في إثراء
الواقع وإغنائه.