أحدث المقالات والدروس

درس دور الإنسان في التاريخ / مفهوم التاريخ / مجزوءة الوضع البشري

author image

 





فيديو الدرس قيد التسجيل (حصري على قناة صوفي لايف)



...........................




ملخص الدرس



المحور الثالث دور الإنسان في التاريخ


تأطير إشكالي

إن التساؤل عن دور الإنسان في التاريخ هو بمثابة تساؤل مستمر عن منطق التاريخ من حيث هو عبارة عن أحداث ووقائع وراءها اختيارات الإنسان وقراراته. فهل يعني هذا أن الإنسان فاعل تاريخي حقا له دور في صناعة التاريخ والتأثير في مجرياته ام أن شروط الضرورات والحتميات تجعله مجرد منفعل بهذا التاريخ لا أقل ولا أكثر؟


1-      موقف فريدريك هيغل

إن التاريخ يسير وفق منطقه الخاص وحتميته التي تعمل خارج إرادة الأفراد، فليس الإنسان سوى وسيلة في يد التاريخ، ومكر هذا الأخير يجعل الإنسان يعتقد متوهما أنه هو صانع التاريخ، غير انه لا ينفذ سوى إرادة التاريخ وفق مسار الروح المطلقة التي جعلت حتى عظماء التاريخ مجرد أدوات في يدها . فيكون الكوني الذي حققه الأبطال موجودا قبلهم، ولكن هم الذين حققوه تاريخيا . « يظهر للناس أن الوضعية الجديدة التي خلقها الأبطال أو العظماء في العالم هي نتيجة لأفعالهم ورهينة بمصالحهم، غير أن ذلك مجرد ظاهر وليس ما هو حقيقي».


2-      موقف کارل مارکس :

 إن تاريخ كل مجتمع يقوم بالاساس على الصراع الطبقي الذي يفضي إلى تحولات تاريخية واجتماعية حاسمة في حياة الناس، غير أن الأفراد الذين يصنعون هذا التاريخ لا يصنعونه وفق ارادتهم وحريتهم، فهو محكوم بشروط وظروف خارجة عن إرادتهم. « ان الناس هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص، إلا أنهم لا يفعلون ذلك عشوائيا وضمن شروط من اختيارهم، بل ضمن شروط معطاة مسبقا وموروثة من الماضي».


3-      موقف جون بول سارتر :

 إن الإنسان فاعل صانع للتاريخ متى تمكن من الوعي بشروط هذه الصناعة، عبر التعالي على كل الشروط الموضوعية وتجاوزها لتحقيق مشروعه الذي هو عبارة عن حقل ممکنات يختار احداها ليحققها، ومن ثم فهو يساهم في نشأة التاريخ وصناعة وقائعه وأحداثه بكل وعي وحرية. « إن الفرد يصنع التاريخ عندما يتجاوز وضعيته نحو حقل ممکناته ويحقق إحداها».


4-      موقف لوي ألتوسير

إن التاريخ هو سيرورة بدون ذات فاعلة، إنه يجسد - بالمعنى الهيغيلي- مسار تغرب أو اغتراب وعملية استلاب لا تحركها أية قوة أو ذات إنسانية فاعلة، وليس لها غاية خارجية كما لا تتجه في خط مستقيم ومطرد . « إن التاريخ سيرورة اغتراب بدون ذات فاعلة» .


5-      موقف لوسيان غولدمان :

 ينتقد التصور الألتوسيري - البنيوي عموما . للتاريخ ولعلاقات الإنتاج، معتبرا أن التاريخ ليس سيرورة بدون ذوات فاعلة وليس نتاج بنيات وأنساق متعالية، وإنما هو بما هو سيرورة للأحداث والوقائع الإنسانية نتاج محض لممارسات البشر وأفعالهم وعلاقاتهم. « إن الناس المأخوذين في مجموعة علاقات مبنية، بوعي مبني وسلوك مبني أيضا، هم الذين ينتجون الأحداث التاريخية».


6-      موقف نيقولاي ماكيافيلي

يرجع صناعة التاريخ والتأثير فيه إلى عاملين أساسيين : الأول ميتافيزيقي خارج عن إرادة الإنسان، إذ ينتمي إلى قوى مفارقة للإنسان محددة في القضاء والقدر. أما الثاني فهو الإرادة الإنسانية، من حيث أن الإنسان يتدخل في صناعة أحداث التاريخ مناصفة مع القضاء والقدر، وهذا يعني أن الإنسان سواء كان فردا أو جماعة يساهم بهذا القدر أو ذاك في صناعة أحداث التاريخ وفق شروط يكون نتاجا لها وصانعا لها في نفس الوقت. « من الحق أن يعزو الإنسان إلى القدر التحكم في نصف أعمالنا، وأنه ترك النصف الآخر، أو ما يقرب منه لنا لنتحكم فيه بأنفسنا».


ترکیب

إن القول بأن دور الإنسان في التاريخ محكوم بالحتمية والضرورة التاريخية التي تفوق إرادته وتجعله منفعلا بهذا التاريخ، لا يلغي ما للفاعلية البشرية الواعية باختياراتها وواقعها من دور وقدرة وحرية في التعالي على التناقضات والشروط الموضوعية لصناعة تاريخها حتى سارت في اتجاه حريتها ووعت إمكاناتها واكتشفت ممکناتها.


خلاصة عامة لمفهوم التاريخ


إن معرفة الإنسان لذاته وغيره لا تتم إلا بذاك الارتباط الوثيق بالتاريخ، فحياة الإنسان الاجتماعية وعلاقاته بالآخرين تستدعي الاهتمام بماضي الإنسان التاريخي ومحاولة استيعابه وإدراكه انطلاقا من تأسيس معرفة تاريخية به، مبنية على نهج سليم وصارم، وإذا كان الإنسان فاعلا تاريخيا قويا بمعرفته ووسائله، يستطيع أن يؤثر في هذا التاريخ، فإن هناك ما يفلت من قبضته ويجعله متجاوزا، مما يشكك في كونه فعلا فاعلا تاريخيا، فتكون العرضية والصدفة هي ما يحكم التقدم التاريخي، وهذا ما يستدعي ضرورة اتخاذ الحيطة والحذر إزاء التاريخ من حيث هو سيرورة ومعرفة قابلة للارتباك.


ترکیب عام لمجزوءة الوضع البشري


إن مقاربة الوضع البشري كفضاء إشكالي، يجعلنا نقترب من فهم الإنسان في جميع أبعاده الذاتية والعلائقية والزمانية، كشخص أو كذات متواجدة مع الغير أو كحضور في التاريخ. إلا أن هذا الوضع البشري أصبح يتأرجح بين خضوعه للضرورة من ناحية، وتمتعه بالحرية من ناحية ثانية.

فالوضع البشري باعتباره ضرورة، يتحدد على مستوى الشخص من خلال الإكراهات والضرورات التي تفرضها القوانين البيولوجية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية ... أما على مستوى الغير، فالإنسان لا يمكن أن يوجد بمعزل عن الآخرين، لأنهم حاضرون أمامه وبجانبه باستمرار، فهم الذين يمنحونه الوعي بالذات وبالعالم، كما أنهم يشابهونه ويختلفون عنه، ويتعلقون به طبقا لمعطيات معرفية وقوانين أخلاقية ضرورية. ثم إن هذا الإنسان حاضر على مستوى التاريخ في ظل سيرورة زمنية يخضع فيها لإرادات بشرية، فردية وجماعية تفوق إرادته، وتتجسد في العقل المطلق المجرد وفي العلاقات الاجتماعية المادية التي تحرك التاريخ وتتحكم في مصير المجتمعات.

أما الوضع البشري باعتباره حرية، فيجعل الإنسان بوصفه شخصا قادرا على التعالي على وضع الخضوع والضرورة، على اعتبار انه يتميز بالإرادة والوعي والحرية والاستقلالية وبما أنه يدخل في علاقات مع الغير، فهو حر في خلق عالم من التباعد اللازم بينه وبين الآخرين، كما هو حر في الدخول في تفاعل مباشر معهم ومشاركتهم عالم القيم والغايات. كما أن وعي الإنسان بالسيرورة التاريخية، يجعله يتحرر من منطق التاريخ وحتمياته، بحيث لا يبقى مجرد منتوج للسيرورة بل فاعلا مؤثرا فيها ومنتجا لها، لأن معرفته التاريخية بماضيه قادرة على تحريره من قبضة الماضي، بل تفتح له آفاق استشراف المستقبل. إن الوضع البشري يبقى وضعا إشكاليا مفتوحا، يستدعي التداخل بين مكوناته الثلاثة، الشخص، الغير والتاريخ، لتبدو مفاهيم مترابطة ومتفاعلة فيما بينها، مع أهمية تداخل الذاتي بالموضوعي والضرورة بالحرية في صناعة هذا الوضع المركب للإنسان.