مفهوم الشغل المحور الثالث: الشغل بين الاستلاب والتحرر
تقديم عام
الشغل، فاعلية بشرية تقوم على التدخل الواعي للإنسان في
محيطه الطبيعي، من أجل تحويله وإشباع حاجاته.
¡
والإنسان لا يملك الخيار
لأن يشتغل، لأن له حاجات، تفرض عليه الدخول في علاقة مباشرة مع الطبيعة قصد
إشباعها.
¡
إذن، الشغل ضرورة لا
تخلو من طابع إكراهي.
الإطار المفاهيمي (المفهمة) للمحور
¡
الشغل
نشاط منظم، يتطلب جهدا فيزيائيا وذهنيا، ممتدا في الزمن، من أجل مكسب ما،
ويفضي إلى إنتاج موضوع للاستخدام أو الاستهلاك.
¡ الحرية
غياب الإكراه الخارجي، أي أن يكون الفرد هو الفاعل، بحيث يتصرف كما يريد هو
وليس كما يريد أحد آخر؛ فالحر إذن هو غير الخاضع لقوة غريبة عنه، سواء كانت خارجية
أو حتى داخلية.
¡
الاستلاب
عموما عملية فقدان وفي الاستخدام الفلسفي للمفهوم وخاصة في الفلسفة
الحديثة يحيل على :
أن أحدا ما صار غريبا بالنسبة إلى ذاته، لم يعد ممتلكا لذاته، ولا يستطيع
فهم نفسه، وقد فقد ماهيته أو حريته.
الإطار الإشكالي : (الأشكلة) للمحور
العلاقة بين هذا الثالوث المفاهيمي علاقة وثيقة وهو ما يفرض التساؤلات
التالية:
- هل الشغل حرية أم استلاب؟
- بأي معنى يعكس الشغل حرية الإنسان ويسهم في تحقيق
إنسانية؟
- وكيف يصير الشغل استلابا؟
- ما هي بعض تجليات هذا الاستلاب؟
- أليس من سبيل لتخليص الشغل من الاستلاب وإضفاء طابع
إنساني عليه؟
1)- الشغل في
نمط الإنتاج الرأسمالي استلاب للعامل
¡
الشغل، فاعلية إنسانية متميزة
ونشاط واع وذكي تتحقق فيه ومن خلاله إنسانية الإنسان، إلا أنه، في شروط وظروف نمط
الإنتاج الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، صار مستلبا على عدة
مستويات.
¡
فما هي تجليات ومظاهر
استلاب الشغل في التصور الماركسي؟
أ-
استلاب منتوج الشغل
هذا النمط من الاستلاب يتجلى حسب ماركس، في ثلاثة عناصر:
- الاستلاب المادي: حيث أن
العامل في الشغل المستلب ليس مالكا لمنتوج عمله.
- الاستلاب الذهني حيث أن
العامل لم يتصور منتوج عمله ويخلو عنده من كل دلالة.
- الاغتراب حيث أن منتوج شغل العامل يصير غريبا
عنه وينقلب ضده لأنه يزيد قوة لرب العمل وضعفا للعامل.
ب- استلاب نشاط الشغل
¡
يتجلى في عدة زوايا:
1)
العامل لا يخلق ذاته من
خلال ما يقوم به، بل يدمر جسمه ويميت نفسه، لأنه لا يشتغل ليحقق إنسانيته، بل
ليفقدها.
2)
الشغل لا يطور كفايات
ومهارات العامل، بل يؤدي إلى اضمحلالها
واندثارها.
3)
الشغل يجرد العامل من
نشاطه الذي لم يعد ملكا له.
4)
الشغل إجباري وقسري.
5)
العامل لا يجد ذاته إلا
خارجه، وما هو خارج الشغل هو الوظائف الحيوانية للإنسان.
ج- استلاب إنسانية العامل
الاستلاب بتجلياته السابقة يمس العامل جسميا وذهنيا، لكنه لا يقف عند ذلك
بل يطال إنسانيته في ماهيتها. يتجلى ذلك في:
·
كون الإنسان يجب عليه أن
يحيا لكي يشتغل، فالشغل إذن يجب أن يكون هدف الحياة الإنسانية.
·
لكن الشغل المأجور يقلب
الأشياء: فبدل أن يحيا الإنسان لكي يشتغل، فهو يشتغل لكي يحيا. فأصبح الشغل مجرد
وسيلة للاستمرار في الحياة.
·
العامل مستلب حتى في
علاقته بإنسانيته الخاصة، لأنه يصير غريبا عن معنى الحياة الإنسانية.
·
الشغل هو الحياة،
والنشاط الحيوي، لكن الرأسمالي اختزله إلى مجرد وسيلة.
·
النتيجة هي أن كل إنسان،
صار غريبا عن الإنسانية، وعملي، بدل أن يشكل معنى حياتي، أضحى مجرد وسيلة للبقاء
على قيد الحياة،
خلاصة موقف كارل ماركس
الشغل بدل أن يكون تحقيقا لإنسانية الإنسان صار هدرا لهذه الإنسانية وتدميرا لها.
¡
ألا يمكن أن يرتبط هذا
الاستلاب بشروط تاريخية محددة؟
¡
وهل يمكن تجاوز هذه
الشروط وإعادة العمق الإنساني للشغل؟
2)- الشغل
استلاب وتحرر
¡
يؤكد سارتر على أن
العنصر المحرر للعامل المضطهَد يكمن في الشغل.
¡
لا ينكر الفيلسوف إذن،
الطابع التشييئي والمستلِب للشغل في صورته الحديثة.
¡
هذا الطابع التشييئي
للشغل يتجلى في ما يلي:
1-
عدم استفادة العامل من
نتاج عمله، وما يحصل عليه مقابل شغله هو الأجر الذي لا يكاد يسعفه في سد رمقه.
2-
التجزيء في الشغل الحديث
يفقده معناه عند للعامل ويحوله إلى عدد محدود من الحركات التي يتعين تكرارها إلى
ما لا نهاية،
3-
اختزال العامل إلى
المهمة التي يتولاها في عملية الإنتاج،
4-
طابعه القسري والإكراهي،
فكل شغل يكتسي معناه من الضرورة التي تفرض على العامل القيام به،
رغم مظاهر التشييئ والاستلاب، يؤكد سارتر أن الشغل، كنشاط في حد ذاته، هو
عنصر محرر للعامل المقهور، وثوري بالضرورة، و يتجلى ذلك في مظهرين:
•
نفي نظام رب العمل نفسه:
فالعامل وهو يشتغل ينفلت من مزاجية رب عمله ولا يعود منشغلا بإرضائه، أو
حتى مهتما بتفاصيل عالمه.
•
نفي المادة بواسطة
الشغل: يتيح الشغل للعامل إمكانية التحرر الملموس من خلال قدرته
على إحداث تغييرات على المواد التي يشتغل عليها فعله.
إذن الشغل، حتى في الشروط القاسية التي يمارس فيها أحيانا، لا يخلو من
تجليات وتمظهرات تعبر عن ماهية الإنسان وقدرته على إعطاء شكل موضوعي وملموس
لحريته.
تركيب للمحور الثالث: الشغل بين الاستلاب والتحرر
الشغل تحرر وتحقق لماهيته الإنسان وتعبير موضوعي عن حريته وإبداعيته
ومواهبه.
¡
لكن ممارسته ضمن شروط كتلك التي ارتبطت بالثورة
الصناعية يجعله هدرا لإنسانية الإنسان وانحدارا به إلى الحيوانية.
¡
ولذلك، يتعين المراهنة
على مساءلة هذه الشروط ومقاومتها وإعادة الاعتبار للشغل وأنسنته بوصفه ذلك النبراس
الذي تضيء بواسطته الإنسانية طريقها.