محور الرغبة والسعادة (موقف ديكارت + موقف بن مسكويه)
المحور الثالث: الرغبة والسعادة
يختلف الناس في تمثلهم للسعادة، بين من يقصرها على حسن العيش، من حياة مرفهة، وامتلاك للأموال والثروات، وتلبية كاملة للرغبات، وتشيع لها، وتحقيق اللذة والمتعة في مختلف أشكالها وتجلياتها، وهناك من يقصرها على حسن السيرة من حياة كريمة ومعتدلة ومنسجمة، وقد نجد الاختلاف بين الأفراد، فالمريض يرى السعادة في الصحة، والفقير يراها في المال، والوحيد يراها في الأنس والصداقة.
يظهر إذن أن التمثل الاجتماعي يهيمن عليه المعنى المادي، الذي يقترن بإرضاء رغبات وشهوات الجسد، والاستمتاع باللذة والرغبة بكل أشكالها. وفي لسان العرب نجد: سعد، السعد، بمعنى اليمن والخير، وسعد سعدا فهو سعيد، وسعد فهو مسعود، وهو نقيض النحس والشقاوة، ويكتسب اليمن أي الخير دلالتين: الأولى تشير إلى ما هو مادي محسوس، وتتمثل في الإرضاء والإشباع، أما الدلالة الثانية، فتشير إلى ما هو عقلي، وتتمثل في التدبير. وتتحدد السعادة من الوجهة الفلسفية العامة كحالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للذات، يتسم بالقوة والثبات، ويتميز عن اللذة للحظيتها، وعن الفرح لحركيته، ويبدو من هذا أن المسألة الفلسفية تتحدد عبر مستويين:
- مستوى كيفي يتعلق بالطبيعة النظرية والماهوية للسعادة، هل هي مادية ترتبط بكل ما يحقق الإرضاء المادي من رغبات، وامتلاك للخيرات والصحة والنفوذ.
- مستوى مجرد يتعلق بكل ما يحقق اللذة العقلية، من معرفة وعلم، أم أنها تتجاوز هذا وذاك لترتبط باللذة الروحية والوجدانية.
1) موقف ديكارت
البنية المفاهمية:
السعادة: يعرف لالاند السعادة: بأنها حالة رضى تام تستأثر بمجامع الوعي
الرغبة عند ديكارت: يعرف ديكارت الرغبة بأنها ميل إلى خير معين يصاحبها الحب ثم الرجاء والفرح، ويربط ديكارت بين الرغبة واعتبار الخير والشر سواء من ناحية في اقتناء خير لم نحصل عليه بعد، أو الرغبة في تجنب شر يعتقد أنه يحصل، والرغبة دائما تتطلع نحو المستقبل.
البهجة: عند ديكارت هي "الحب الذي عندنا الأشياء الجميلة "ص 59 كتاب انفعالات النفس
الحب: ميل أو رغبة تولد إحساسا بالبهجة.
بنية النص وأفكاره: - تعدد الرغبات وتنوعها لكن أشدها هي الناتجة عن إحساس متقابلين هما: البهجة والنفور. - تعريف الحب وخصوصيته وبيان علاقته بالرغبة.
الأطروحة: الإحساس بالبهجة والسعادة نحو موضوع أو شخص يولد رغبة تختلف درجاتها وتنوع مصادرها. لكن لابد من تنظيمها وعقلنتها.
استنتاج: إن الانفعالات مثل الفرح والحب والحزن والكراهية...: هي الانفعالات التي نثير في الإنسان الرغبة حسب ديكارت، لها هدف اجتماعية وأخلاقي هو تنظيم عاداتنا وأخلاقنا، لذا فلا بد من تنظيم هذه الرغبات، وتأسيسها على المعرفة والعقل يقول ديكارت: " ان العقل يريد بأن نختار السبيل الذي جرت لعادة على أن يكون الأكثر أمنا، ويجب أن تتحقق رغبتنا بخصوص هذا الأمر، حين نكون قد اتبعنا هذا السبيل "، وذلك بالتمييز فيما نرغب فيه بين الأشياء التي تتوقف كلية علينا والأشياء التي لا تتوقف علينا أبدا، وكذا تحرير الروح من جميع الرغبات الأخرى الأقل منفعة.
2) م موقف المفكرين المسلمين
لقد عمل المفكرون المسلمون الذين بحثوا في موضوع السعادة على تأكيد شيئين: أولا ضبط مفهوم اللذة بالتمييز فيه بين اللذة العقلية والجسدية، والمفاضلة بينهما، حيث أن اللذة العقلية أي الرغبات العقلية من المعرفة والفكر أرقى شأنا، وأعلى مرتبة من اللذة البدنية، والتي تظل عندهم محتقرة، وهذه المفاضلة نجد جذورها في النسق الفلسفي الأفلاطوني – الأرسطي، الذي يمجد العقل ويرى أن العقل أسمى منـزلة من الرغبة والشهوة، حيث أن الرغبات الحسية مرتبطة بعالم الكون والفساد، في حين أن الرغبات العقلية مرتبطة بعالم متعال دائم لا يلحقه الفساد والتغير، وانطلاقا من هذا كله، فإن سعادة الإنسان لا ترتبط بمدى إرضائه لملذاته الحسية، وذلك لاعتبارات كثيرة منها: أن اللذة البدنية يشارك فيها الإنسان جميع الحيوانات كرغبات الأكل والشرب.
لقد عمل ابن مسكويه على مهاجمة أولئك الأبيقوريون (يقصد هنا الفلسفة الأبيقورية التي جعلت اللذة في منزلة الحكمة)، وكذلك كل من يدافع على كون السعادة هي اللذة أي الذين يحصلون السعادة في الرغبات البدنية، فاعتبرهم من العامة الرعاع، وجهال الناس السقاط.
إن الرغبة في تحقيق وإشباع اللذات والشهوات الحسية، تؤدي إلى جعل النفس أسيرة الشهوات، لا تستطيع أن تكسر هذه القيود الحسية، فقوى الجسم من العقل والبصر والسمع والحركة، وغيرها من القوى الأخرى، جعلت في الجسم لا من أجل تحقيق الشهوات والملذات، وإنما من أجل السمو باللذة العقلية، فلا فرق بين طالب اللذات البدنية وخسائس الحيوانات كالخنازير والخنافس، والديدان، ولأن الابيقوريون جعلوا النفس الشريفة كالعبد الممتهن، وكالأجير المستعمل في خدمة النفس الشهوية لتخدمها في المآكل والمشارب، ولأن الجسد لا يمكنه بأية حال أن يكون داعيا إلى الفضيلة، فإن الداعين إلى السعادة إستنادا إلى الجسد ظلوا عند مستوى البهيمية، ومن هنا فلا عجب أن نجد ابن مسكويه يشرف اللذة العقلية، باعتبارها رغبات إنسانية من نوع آخر، ويعلي شأنها إلى درجة القداسة أحيانا، فهي لذة تامة وشريفة ولا تمل.
إن تفضيل اللذة العقلية سيجعل من السعادة خيرا على الإطلاق، لأننا نطلبها لذاتها كغاية، ونؤثرها لذاتها لا لشيء آخر غيرها. إن أصل هذا التصور للرغبة والسعادة، يعود إلى نظرة الفلاسفة المسلمين إلى الإنسان من خلال الثنائية (نفس/ جسد)، فتم تمجيد النفس والعقل، واحتقار الجسد والمادة، بل وجعلوا تحقيق السعادة خاصة، والفضيلة عامة، رهينا بمدى تجاوز عوائق البدن وتطهير النفس من الرذائل والشهوات الرديئة، والنزوات الفاحشة التي قد تعلق بها، فبقدر ما تلتبس النفس بالبدن وتتدنس بملذاته، يبتعد الإنسان عن قبول الفضائل، وينخرط بالتالي في الشقاء والشر، وفي هذا السياق جعل مسكويه من مسألة معرفة النفس وإثبات وجودها، ومباينتها للجسد، المسلك الضروري لتحصيل السعادة خاصة وتهذيب الأخلاق عامة، فالجسد حسب ابن مسكويه مرادف للرغبة، والرغبة توحي إلى تحقيق اللذة الحسية، وبالتالي عدم سمو الإنسان إلى مرتبة مقدسة، ويضيف أيضا أن فضيلة النفس تكمن في التشوق إلى العلوم والمعارف، وبحسب إلحاح الإنسان وإصراره على طلبها تكون سعادته. إن تميز الإنسان بالعقل، هو ما يجعله يباين البهائم، ولا تكون السعادة لغير الناطقين، وجعل أشرف الناس وأسعدهم من كان له عقلا يتشوق به إلى العلوم والمعارف، وكانت الحكمة أسمى تجليات العقل البشري المتشوق، لزم بالتالي أن تكون الحكمة سبيلا إلى السعادة التامة وطريقا لتحصيلها، بالممارسة العقلية والتأمل في الذات، وفي الموجودات، فتكون بذلك السعادة تأملية تتحقق بالإدراك العقلي، وهكذا سيحصل الفارابي السعادة، في الاتصال العقلي بين العالم السفلي والعلوي، ويقصى كل الرغبات والشهوات والملذات الجسدية باعتبارها سبيلا غير موصلة للسعادة الحقيقية.