درس الرأي والحقيقة / مفهوم الحقيقة / مجزوءة المعرفة
درس الرأي والحقيقة / مفهوم الحقيقة / مجزوءة المعرفة
مجزوءة المعرفة / مفهوم الحقيقة
تقديم عام لمفهوم الحقيقة
إن البحث عن الحقيقة كآلية من آليات التفكير الفلسفي، لا يعني بالضرورة حصر الحقيقة في مجال المعرفة الفلسفية، بل هي غاية كل معرفة مهما كانت مرجعيتها؛ ولذلك فالحقيقة هي هدف خالص للبحث المعرفي والتأمل العقلي في شتى المجالات، يمكن أن يكتسب صفة رأي أو نظرية أو موقف. غير أن الحديث عن الحقيقة هو في نفس الآن حديث عن تعدد أنواعها (حسية، عقلية، حدسية، فطرية، مكتسبة). لذا فمن اللازم أن توضع معاييرها في خانة البحث، حتى تصير حقيقة كونية وشاملة تؤسس لخطاب تحاوري تفاهمي بين الجميع، وتجعلها قيمة أخلاقية يرتكز عليها البناء الاجتماعي أو قيمة معرفية ضرورية لتطور المعرفة، وبالتالي تقدم وازدهار الحياة الإنسانية. فما الحقيقة ؟ ما الطريق المؤدي إليها؟ ما معاييرها ؟ ومن أين تستمد قيمتها؟
HHHHHHH المحور الأول : الرأي والحقيقة IIIIIII
تأطير إشكالي للمحور
يثير الرأي باعتباره انطباعا شخصيا يكونه الفرد بناء على إدراكه الحسي المباشر في علاقته بالحقيقة مجموعة من الإشكالات، يمكن إبرازها على النحو التالي : ما السبيل المؤدي إلى بلوغ الحقيقة ؟ هل هو الرأي أم العقل أم طريق أخر ثم هل يمكن للرأي أن يرقى إلى مستوى الحقيقة ؟ وهل هذه الحقيقة معطاة أم يتم بناؤها ؟ وبأي طريقة تبني؟
1 موقف إيمانويل كانط:
يقر بأن الرأي يرتبط بالحقيقة والمعرفة بشكل منطقي انطلاقا من وجهة نظر العقل الخالص وطريقته في إصدار الأحكام؛ أي أن طريق المعرفة يبداً بالرأي الذي ينقسم إلى اعتقاد غير كاف ذاتيا وموضوعيا يدعى المعرفة، واعتقاد كاف ذاتيا يسمى اعتقادا راسخا (بالنسبة لي)، ومكثف موضوعيا يسمى يقينا (بالنسبة لكل واحد). وارتباط الرأي بالحقيقة، يقتضي الكونية والضرورة، ومن ثم يقينا تاما يقود إلى الحقيقة. (مثل الاعتقاد - أو القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين الذي يتوفر في الوقت ذاته على قيمة موضوعية من ثلاث درجات: الرأي، الإيمان، المعرفة).
2 موقف غوتفريد ليبنتس :
يؤكد على دور الرأي وأهميته في مجال المعرفة الإنسانية، وبشكل خاص المعرفة العلمية ، فعدم الحسم القطعي مع مسالة من المسائل، يجعل بالإمكان تحديد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة؛ ومن ثم بالمستطاع الحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكثر جلاء، وعليه فالبحث في درجات الاحتمال يكون أكثر أهمية مما يعطي للرأي القائم على الاحتمال وزنه في كل معرفة تاريخية أو معرفة برهانية، (إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف).
3 موقف أبو نصر الفارابي :
يتحدث عن التناقض الحاصل بين الحقيقة وبادئ الرأي ؛ فبادئ الرأي هو تلك الأفكار المتداولة والمعارف العامية (الخطابة، الشعر، حفظ الأخبار والأشعار صناعة اللسان، صناعة الكتابة ...) السائدة والشائعة بين جميع الناس، والتي يعود مصدرها إلى الانطباعات الحسية، وتكون غير خاضعة للتمحيص أو البحث او التدقيق، وهي بذلك تتقاطع مع المعارف النظرية (الرياضيات العلم الطبيعي ) التي تؤدي إلى الحقيقة المحصل عليها بالفحص البرهاني، سواء كانت حقيقة علمية أو حقيقة فلسفية، ( تبين بالطرق الجدلية أنها ليست كافية بعد في تحصيل اليقين... والتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخُطبية أو بالشٍّعرية).
4 موقف رونيه ديكارت:
عمد إلى إعادة تأسيس معارفه على أساس أكثر متانة وصلابة ، فكان أن بداً يقوم بفحص الآراء المتداولة التي تلقاها من وسطه الاجتماعي منذ صغره ممارسا نوعا من الشلف المنهجي، بموجبه وضع كل الأشياء والأراء موضع تساؤل وفحص واختبار بهدف بلوغ اليقين والوصول إلى الحقيقة، وهذا ما سيجعله يتخلى عن الكثير من الأراء الشائعة. (بحيث كان علي أن أقوم، مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت... فإني سأوجه هجومي أولا إلى المبادئ المؤسسة التي كانت تستند إليها آرائي السابقة).
5 موقف غاستون باشلار:
يقيم قطيعة جذرية بين الرأي والحقيقة العلمية؛ فالرأي قائم على الاعتقاد والظن الشائع لدى الناس، وبذلك فهو يجعلهم يميلون بشكل طبيعي إلى التصديق بالمعطى المباشر، وهذا يدل على أن الرأي لا يفكر، ومن ثم ينبغي تجاوزه وهدمه لانه يقف عائقا أمام العلم الذي يؤسس الحقائق بعناية كبيرة، انطلاقا من عملية التخلص من الأفكار الشائعة واستبعادها، ثم البدء في الملاحظة ووضع الفرضيات واختبار مدى صحتها لتصير حقائق مبنية لاحقا. (تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه ...لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي، بل يجب أولا أن نقضي عليه. وبالتالي فالرأي هو العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية).
6 موقف بليز باسكال:
ينتقد الزعم القائل بأن العقل هو المصدر الوحيد للحقيقة، ويعتبر أن هذا العقل لا يمكنه الإلمام بمعرفة كاملة حول كل الأشياء؛ فهناك مصدر آخر للحقيقة هو القلب، الذي يشكل مرتعا للحقائق القائمة على الشعور والعاطفة، والتي لا تحتاج إلى الاستعانة بالاستدلال العقلي، بل إن العقل ذاته هو الذي يستند، لتأسيس خطابه بكامله على المعارف الصادرة عن القلب. «نعرف الحقيقة لا بواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب».
7 موقف أفلاطون:
إن منبع الحقيقة قائم في عالم المثل الذي يتم إدراكه بواسطة التأمل العقلي المجرد. أما العالم الحسي فهو واقع مظلم وخادع باعتبار أن ما تمدنا به الحواس لا يعكس الحقيقة، وإنما يشكل ظلالا واشباحا نتوهم أنها حقيقة. إن هذا يشبه الرؤية في كهف مظلم. وبالتالي لا ثقة في شهادة الحواس، ومن ثم وجب التحرر من قيود العالم الحسي والسير في عالم المعقولات المجردة. «هؤلاء السجناء القابعون في كهفهم المظلم لا يدركون من الحقيقة إلا ظلالا لأشياء مصنوعة».
تركيب عام للمحور
يتضح أن هناك تباين في التموقف من علاقة الرأي بالحقيقة، فإذا كان هذا الراي المرتبط بالحقيقة والمعرفة بشكل منطقي من منظور الحقل الخاص (كانط). وقائما على أعلى درجات الاحتمال التي تجعل منه معرفة وحقيقة (ليبنتس)، بل يصل إلى بلوغ قيمة الحقيقة ذاتها باعتباره نابعا من الحقائق القلبية التي هي نوع من الراي (باسكال). فإنه في الجهة المقابلة، يشكل نقيض الحقيقة من حيث أنه تلك الافكار المتداولة والمعارف الحسية المشتركة التي لا تخضع للفحص ( الفارابي). والتي تتعارض مع المعارف والحقائق العلمية المبنية بشكل دقيق (باشلار)، كما أنه يجسد رأيا خارعا يتسرب بواسطة الحواس التي لا يمكن الوثوق فيها لقيامها على الوهم وقابليتها للخطا (أفلاطون)، مما يقتضي معه وضع كل الاراء موضع فحص اوتمحيص وشك منهجي للوصول إلى الحقيقة اليقينية (ديكارت).